القائمة الرئيسية

الصفحات

ا.د محمد تحريشي: عنف الخطاب ودرامية المشهد في رواية "قطط إسطنبول"

الروائي السوري زياد كمال حمامي 

علق ا.د محمد تحريشي على رواية "قطط إسطنبول"  للروائي السوري "زياد كمال حمامي"، و التى صدرت عندار نون 4 للنشر والتوزيع في مايو 2023. 


 قائلا انها رواية تستدعي الكثير من النصوص الغائبة وتتحاور مع أنساق ثقافية متعددة مضمرة. ورواية ترصد واقعا مريرا. تقول باسمة العوام عن الجدوى من كتابة هذه الرواية: “كاتب التزم أوجاع الوطن وقضايا الإنسان الإنسانية، فماذا أراد أن يقول عندما كتب عن ” قطط إسطنبول”؟

 هل أراد أن يصوّر علاقة الأتراك بالقطط والحيوانات الأليفة وحجم التواصل بينهم؟ أم ليذكرنا بذاك الفيلم الوثائقي ” القطة / ” Kedi ” بالتركية ” للمخرجة التركية ” سيدا تورون “؛ الذي يعكس الثقافة الاجتماعية والدينية عند الأتراك فيما يتعلق بتلك القطط التي يعتبرونها ” كائنات واعية بوجود الله وتعرف جيدا أن الإنسان يعمل وسيطاً لإرادة الله “؟ 

وتلك النحاتة التركية (سيوال شاهين) التي أقامت تمثالاً للقط السمين ” تومبيلي ” عام 2016 على الرصيف الذي كان يجلس فيه في منطقة ” كاديكوي ” في اسطنبول تخليدا لذكراه؟ وهل هو القط الذي يظهر على صورة الغلاف؟ وما سرّ تلك المرأة العارية التي تظهر بجانبه ؟؟ 

إن رواية “قطط إسطنبول” عمل سردي يمكن إدراجه ضمن الأدب العربي بالمهجر، تتناول واقع السوريين بعد المحنة والهجرة إلى خارج سورية، وتركّز على واقع حال عيشهم في تركيا.

رواية عن الهامش والمهمشين بلغة ساخطة وعنف خطاب يترصد مشاهد درامية تقوم على تواصلية بين عناصرها السردية لتحدث تأثيرا في القارئ وبذلك تجعل هذا الخطاب الروائي أكثر إثارة وتأثيرًا.

 وتمثل عنف الخطاب في استخدام لغة قوية ومثيرة للانتباه، سواء من خلال استخدام كلمات قوية، أو جمل مثيرة للجدل لصدمة القارئ، والذي يصاب بالذهول والحيرة والقلق وحتى الاضطراب وهو يقف على مشاهد تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات بشكل حاد، مما يجعل القارئ يشعر بالتوتر والتشويق.

كان هذا العنف في الخطاب وسيلة للتعبير عن توترات اجتماعية أو سياسية أو نفسية، واعتمد التصوير الفني في هذه الرواية على درامية المشهد لتجذب انتباه القارئ بمزيد من الإثارة التي تحتوي على مفاجآت، أو تطورات مثيرة، أو صدمات مفاجئة. 

“ليس لدى المشردين مأوى في ليالي البؤس، غير ظلام الحدائق بعد منتصف الليل، أو مقابر المدن أو تحت الجسور الرَّطِبة أو الأماكن المهجورة، يتشابهون مع الكلاب الضالة وقطط الليل، إذ لا فرق بين المقبرة والحديقة، فالطقس واحد، وكلُّ الورود متشابهة، إن كانت على قبرٍ ما، أو في بتلةٍ ترفع رأسَها في ركنٍ آخر من الحديقة.. قد تختلف الروائح أو الأحاسيس، راحة النفس أو الخوف، ولكنَّ الشيء الوحيد المشترك هو ضوء القمر الذي لا ينام مع الضباب أو زخات المطر”(الرواية:7)
تتضمن المشاهد الدرامية في هذه الرواية صدامات بين الشخصيات، أو مفاجآت تغيير مفاهيم القارئ السابقة.

 “لم يسأله أحدٌ من الجالسين عن اسم هذه المرأة الشابة، إذ إن خداع الزوجات وغدرَهنَّ بأزواجهنَّ في بلد اللجوء حادث عَرَضِيّ، غيرُ مهمٍ لكثرة ما يتكرر، ويشاع في إسطنبول وغيرها، ولكن انتابت اللولو حالة من التفكير، سأل نفسه: هل تكون هذه المرأة هي زوجة “ماهر الشحود؟!” ثم أجاب نفسه: “لا، لا يمكن، لأنه قال ذات مرة إنه سيرسل أوراق لمّ الشمل لها ولأولادهما معاً” فكّر قليلا: “ولكنْ لماذا تزوّج امرأة ألمانية؟!”. نظر إلى”عبود الأقرع” نظرات فيها ألف سؤال، لكن “عبود” أطرق رأسه إلى

 
الأرض، ولم يقل اسمها، بل ختم حديثه مبتسما:
دعوا الكلام بيننا ولا تشيْعوه لأحدٍ غيرنا.”(الرواية:75). قامت هذه الرواية على دمج هذين الجانبين (عنف الخطاب ودرامية المشهد) في الرواية، وبذلك يمكن أن تصبح القصة أكثر إشراكًا وتأثيرًا، مما يعزز تجربة القارئ ويجعله أكثر تفاعلًا مع أحداث الرواية. 

وبذلك تتشابك تلك العناصر الأدبية من عنف خطاب ودرامية المشهد مع سردية التواصل بكيفية يتم تقديم الأحداث والحكايات في النص الأدبي، وكيفية التفاعل بين الشخصيات، وتشمل أساليب السرد والتواصل اللغوي الذي يستخدمه الكاتب لنقل القصة والتفاعل بين الشخصيات والبيئة. ” اصبري خالتي، اصبري، لا بدَّ أنْ نصل.
  
أحسّت المرأة بشيء من الدفء في جسدها كله، فاستمدت من كلمة “خالتي” نسيجا من الصبر والأمان، وشعرت بدمائها تجري إلى مستقرّ لها: ” لابد من الصبر مهما كان الألم”، قالت ذلك في نفسها. 

مضت برهة صمت مبين، تحكي له سببَ مجازفتها ثم بدأت المرأة تحكي لها سبب مجازفتها، قالت: “أنا أمٌ يا بني، أولادي الثلاثة رحلوا منذ سبع سنوات إلى ألمانيا، غادروا عبر البحر، أعطيتهم كل مصاغي والأموال التي كانت معي ومع زوجي، شعرت في يوم رحيلهم أنني فقدت مع كلّ واحدٍ منهم ضلعا من جسدي، ولديَّ ابنة تزوّجت من شابٍ يعمل في الخليج، نعم يعمل في الخليج، وهكذا بقيت أنا وزوجي، وهذه الطفلة “سِدرة”، لقد حاول أولادي بشتّى الطرق جمعَ شملنا، ولكن القوانين الأوروبية لا تسمح للاجئين بلمّ شمْل الأب والأم، وكذلك الأخ والأخت، وهكذا تشتت عائلتنا، زوجي تجاوز الخامسة والستين،(الرواية: 88، 89) . 

يقوم عنف الخطاب في هذه الروية على استخدام لغة قوية ومثيرة للانتباه، سواء من خلال استخدام كلمات قوية أو جمل مثيرة للجدل كما هو الحال في هذا المشهد الذي وقفنا عنده. 

ويمكن أن يتجلى عنف الخطاب في تصوير الصراعات بطريقة حادة، مما يثير توتر القارئ ويلهب حماسه. تقوم درامية المشهد في الرواية على خلق توتر وتشويق في المشاهد، سواء من خلال تطورات مثيرة أو مفاجآت غير متوقعة. 

ويهدف الكاتب هاهنا إلى جعل المشاهد مثيرة للانتباه والاهتمام، مما يحفز القارئ على متابعة الأحداث بشغف.

إن العلاقة بين هذه العناصر تكمن في أن استخدام عناصر سردية فعّالة يمكن أن يعزز التأثير الإجمالي للقصة. على سبيل المثال، يمكن لسردية التواصل تعزيز فهم القارئ للشخصيات والبيئة، في حين يمكن لعنف الخطاب ودرامية المشهد إضافة عمقًا وتوترًا إلى الأحداث والصراعات في الرواية. 

و ذهب الناقد الأردني موسى إبراهيم أبو رياش إلى أن الرواية :” وبعد، فإن «قطط إسطنبول» لزياد حمّامي، رواية حافلة بصور البؤس والظلم وجبروت الإنسان على الإنسان، وتؤكد حقيقة أن اللاجئ إنسان منقوص الحقوق، ينظر إليه على أنه إنسان أجرب، ليس له الحق في الحياة الإنسانية أسوة بالمواطنين، فهو أقل منهم بدرجات. واللاجئ يُدرك ذلك، ولا يطالب بالمساواة في الحقوق، لكن أن يعامل كإنسان له حق الحياة، كالقطط على الأقل. 

ولعل توظيف القطط في الرواية ودلالتها يتطلب دراسة مستفيضة، فقد كان لها دور رئيس وفاعل في الرواية، بالإضافة إلى «اللولو» و«شام» و«اليبرودي». وتضاف الرواية إلى عشرات الروايات التي تناولت اللجوء السوري، ومعاناة اللاجئين، وشكلت في مجموعها ما يمكن أن يُطلق عليه «أدب نون اللجوء السوري.  
 
ومن ثم فإن هذه الرواية تستفيد كثيرا من رمزية توظيف القطط لتمثيل صفات معينة أو للتعبير عن مفهوم معين في هذه القصة.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن ترمز القطط إلى الغموض، الحذر، أو الاستقلال، وربما الاستغلال والفساد وحتى العيش في الهامش بكل صفات الإهمال.

 “هي تريد أن تعرف السّرِ وراء هذا البكاء، وليس أمامها غير حاسّة الشمّ التي تستطيع من خلالها كأيّ قطةٍ أخرى أن تعرف ما يخبّئه الإنسان من مشاعر نحوها، إن كان يحبها أو يكرهها، وإن كان مُسالما معها أو أنه سوف يعتدي عليها، ولهذا، تقترب منه بمكرٍ وهدوء، تلقي نفسَها في حضنه، تقبّله، تدسُّ رأسَها بين إبطيه، تشمّ يده اليمنى التي تحمل الرسالة، تتأكد أن رائحة الحروف تنطلق منها رائحة حليب الأم حليب الأم البشري، وهي الأعلم بهذا، وهي الأقدر على التفريق بين روائح الحليب المختلفة كلها ، تنظر إليه بعينين حزينتين، تراقبه وقد بدأ بقراءة الرسالة، ولكن بصمتٍ مُؤثر، تشعر أنها تقرأ معه الرسالة كلمة بعد كلمة، ولم يثنها عن الفهم، حتى ولو كانت لغتُه غيرَ لغتها، وهو لم يدرك ذلك البتة!”(الرواية:110). 

إن صورة القطط في هذه الرواية يمكن أن تكون متنوعة وتتغير حسب سياق القصة وكيفية تناول الكاتب لهذا العنصر. ويمكن أن تكون للقطط أدوار وعواطف معينة، وقد تكون لها تأثير كبير على السرد. وفي النهاية، يعتمد مدى أهمية صورة القطط في الرواية على الرؤية الأدبية للكاتب والسياق الثقافي والاجتماعي الذي يُكتب فيه العمل الأدبي.

سعى الكاتب إلى تقديم معادل موضوعي للقطط التي تعيش في الهامش وتعاني من الإهمال في مقابل قطط تلقى العناية والاهتمام والرعاية. ما أصعب لما يحمل الإنسان صفات القطط، وما أهون أن تحمل القطط صفات الإنسان في مشاهد درامية تقوم على الصراع بين الخير والشر وبين الصلاح والفساد وبين الأمل واليأس وبين الفرح والحزن. تولد هذه الدرامية حوارية تواصلية بين مكونات البنية السردية لهذا الرواية، وفي الوقت ذاته تواصلية بين النص والقارئ في رحلة البحث عن المعنى.

تتجلى درامية المشهد وعنف الخطاب وسردية التواصل في هذه الرواية في مظهر المدينة بين حلب وإسطنبول في ثنائية مهمة جدا بين الحنين والشوق من جهة وبين الشعور بالأسى والقنوط والضيق. ” أعشق حلب وأبوابها التسعة يا أمي، “باب الجِنان” المؤدّي إلى بساتين حلب، وأشجار الفستق الحلبي الأحمر الممزوج بالأخضر، والقلب مفتوح يرحّبِ بكل العاشقين والساهرين في كلّ الفصول، وباب النَّصر الذي تعود منه الجيوش منتصرة في محاربة رِجْس الرّوم وخبْث الغزاة والطامعين، وباب “أنطاكية” الكبير، المؤدي إلى ولايات حلب، وكان يُعرف بطريق الحرير، وكانت حلب تعيّنِ الولاة، وتقود التجارة، ولكن أه ه ه.. يا أمي، صارت حلب اليوم تأكل أولادَه ا، تهرّبِهم، ترسِلهُم بعيدا، تتخلى عنهم، تهبهم بلا ثمن، وهنا، فيما كانت بعض هذه الولايات تابعة لها، أصبحنا فيها مجردَ قطط تائهة…”(الرواية: 111). 

هكذا يتحول المكان من قيم إيجابية إلى قيم سلبية فيقوى الحنين والشوق والأسى، هكذا تغادر الطيور أعشاشها لتبحث لها عن مكان آمن فتتوجه شمالا، ولكنها تكتشف في الأخير أن لا حياة من دون كرامة. ” وحين وقف أمام لوحة إعلانية كبيرة، يمولها أحد المرشحين المتطرفين، مكتوبة بلغة عربية ركيكة، ومتموضعة على الرصيف الرئيس لشارع عريض كتب عليها:
“أنادي اللاجئين، قلتم قبل 11 سنة بأنكم أتيتم إلى بلدنا ضيوفا، والشعب التركي يحاميكم بضيق استطاعته منذ سنوا ت، والأن تطولت هذه الضيافة كثيرا جدا، وتشاهدون الأزمة الاقتصادية في بلدنا. شبابنا بدون عمل، وتعيش العوائل تحت حد الجوع. بهذه الشروط لم يبق لنا خبز ولا ماء حتى نتشارك معكم، حان وقت سفركم إلى بلدكم كما أتيتم إلى تركيا، ارجعوا إلى بلادكم!””(الرواية: 55). ترصد الرواية هذه المشاهد وغيرها لتزيد من درامية البناء وعنف الخطاب وصولا إلى السردية التواصلية.

تعليقات

التنقل السريع